كتب محمد محمد احمد الانسي
خبير اقتصادي
التعريف الأممي للأمن الغذائي، كما تقدمه المنظمات الدولية مثل (الفاو) و(البنك الدولي) و(برنامج الأغذية العالمي)، يبدو في الظاهر شاملاً وموحدًا، إلا أنه في العمق يعكس منظورًا اقتصادياً وسياسياً يخدم قوى النهب والهيمنة العالمية، ويدعم السوق الدولية على حساب سيادة الدول وحق الشعوب. والملاحظ أن التعريف الأممي يربط الأمن الغذائي بالقدرة على الوصول إلى غذاء كافٍ وآمن ومغذٍ لجميع الناس في جميع الأوقات، وهو تعريف يبدو شاملاً لكنه يعاني من غموض حول من هم “الجميع”، وكيف تُقاس “الحياة النشطة والصحية”، وهل يشمل كبار السن والضعفاء وغير القادرين على العمل من البؤسى وأهل الأمراض المزمنة والاحتياجات الخاصة.! ويتضح أن التعريف المنتشر على الصعيد العالمي، المتداول بين المنظمات والمؤسسات (الدولية) يترك المجال لتفسير فضفاض واسع يمكن استخدامه لتبرير سياسات تجارية أو سياسيات مرتبطة بمصالح قوى معينة على حساب الشعوب.
والأهم من ذلك أن الواقع العملي يظهر فجوة كبيرة بين التعريف الأممي والممارسات الفعلية على أرض الواقع، وهناك مجموعة من الدول تصنّف نفسها آمنة غذائيًا وفق المؤشرات الرسمية مثل أمريكا والهند والبرازيل، بينما تحتوي على جيوب جوع حاد، ونسبة كبيرة جداً من سكانها تواجه مشاكل في الأمن الغذائي وصعوبات في الوصول إلى الغذاء الذي تحتاج إليه. وهذا يعني أن التعريف الرسمي لا يلتقط العدالة التوزيعية ولا يحمي الفئات الضعيفة.
والمؤشرات التي تستخدمها المؤسسات (الأممية) لتقييم الأمن الغذائي غالبًا ما تختزل الواقع الغذائي إلى مقاييس كمية ضيقة، مثل السعرات الحرارية أو نسب الفقر الغذائي، بينما تتجاهل التنوع الغذائي، وجودة الغذاء وسلامته.
وثمة مشكلة أخرى مهمة وهي أن التعريفات الأممية أيضًا تميل إلى التركيز على الاستيراد والقدرة الاقتصادية على الحصول على الغذاء، متجاهلة السيادة الغذائية وحق الدول في التحكم بإنتاجها المحلي وبمواردها الزراعية؛ وهذا يخدم النموذج قوى الهيمنة والاحتكارات الربوية العالمية ويعزز من استمرار سيطرتها على الأسواق، ويبرر اعتماد الدول على التجارة الدولية وليس الاكتفاء الذاتي.
من أشكال الهيمنة الاقتصادية تظهر بوضوح احتكارات مجموعة من الشركات مثل “مونسانتو” و”كارغيل” لسلاسل البذور والحبوب عالميًا، ومن خلال ضغوط المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ذات الأشكال المتعددة معظمها بحجة تحرير الأسواق، وهو ما يجعل الدول المستهدفة بالنهب غير قادرة على النهوض، ويزيد من تبعيتها للقوى المهيمنة. والنموذج هنا واضح في دول الخليج التي تستورد أكثر من 90% من غذائها رغم ثرائها المالي، أو في الدول العربية التي استبدلت زراعة الحبوب والمحاصيل الأساسية باستيراد الغذاء من الخارج بالرغم من أنها كانت مكتفة ذاتية إلى وقت قريب بعضها استمرت مكتفية إلى السبعينيات من القرن العشرين الماضي.
ومن منظور استراتيجي، فالإشكالية تتجاوز نقص الغذاء إلى ما هو أبعد، إذ يرتبط الأمن الغذائي بالسيطرة على الموارد والسياسات الاقتصادية العالمية. فالدول الغنية وشركاتها الكبرى تتحكم في الأسواق العالمية للغذاء،
بالتالي، يمكن القول إن الأمن الغذائي العالمي وفق التعريفات والمعايير الرسمية يظل إطارًا شكليًا يركز على السوق والكمية ويرسخ مشكلة بقاء الدول والشعوب في دائرة الاستيراد وعبودية الاستهلاك من غير تمكين للفئة المستهلكة ليتحقق التوازن والاستقرار الاقتصادي المطلوب والممكن. وأي تحليل أو سياسات لا تأخذ هذه الأبعاد بعين الاعتبار سيكون ناقصًا، وسيظل الأمن الغذائي شعارًا أكثر منه حقيقة ملموسة على الأرض، بينما يستمر الجوع والتبعية الاقتصادية في التفاقم مخلفاً الكثير من المشاكل والآثار السلبية الضارة.
إشكالات تعريف الأمن الغذائي العالمي
أولاً: غموض المفهوم
يشكل تعريف الأمن الغذائي الذي تتبناه المنظمات الأممية تحديًا جوهريًا، نظرًا لطابعه العام والفضفاض. فعلى الرغم من أن التعريف يشير إلى توفير الغذاء “لكل الناس، في جميع الأوقات”، إلا أنه يفتقر إلى تحديد واضح ودقيق للفئات المستهدفة.
للتوضيح أكثر يمكن طرح هذا السؤال: من هم هؤلاء “الجميع”؟
هل يشمل جميع الأعمار والفئات الاجتماعية والاقتصادية؟ وهل يشمل التعريف الفئات الأكثر ضعفًا أو تلك التي لا تستطيع المشاركة في العمل ولا تمتلك قدرة شرائية للوصول إلى المعروض من السلع الغذائية المستوردة!
إضافة إلى ذلك، يشير التعريف إلى ضمان “حياة نشطة وصحية”، لكنه لا يقدم مؤشرات عملية أو معيارية يمكن من خلالها قياس مدى تحقيق هذا الهدف على أرض الواقع. هذا الفراغ يترك المجال واسعًا لتفسيرات مختلفة، ونتيجة لذلك، يصبح التعريف الأممي عرضة للاستخدام وفقًا للمصالح السياسية أو الاقتصادية، حيث يمكن لبعض الجهات تكييفه لدعم سياسات تخدم أهدافها الخاصة دون أن تعكس بالضرورة تحقيق الأمن الغذائي الحقيقي.
ثانياً: إغفال قضية عدالة التوزيع
التعريف يركز على توافر الغذاء والوصول إليه، لكنه لا يعالج ولا يشير إلى مشكلة الاحتكار والهيمنة التجارية والسيطرة على سلاسل الإمداد من قِبل القوى الكبرى.
ثالثاً: مشكلة التركيز على الاستيراد
من خلال تعريفات الأمم المتحدة والكيانات الدولية الأخرى نجد أن معظمها تختزل الأمن الغذائي في إطار اقتصادي محدود يركز على القدرة على الاستيراد، بينما تجاهلت التعريفات البعد السيادي وحق الدول في التحكم بأرضها وبذورها وتحقيق الاكتفاء لنفسها.
والتعريفات الأممية تخدم في الغالب مصالح قوى الهيمنة والاحتكارات حيث تركز على أهداف التجارة العالمية بدلاً عن الاكتفاء الذاتي، وهذا يؤدي إلى إضعاف اقتصادات الدول ونشر الفقر فيها ومنع تمكين الفئة المحتاجة إلى التمكين.
إشكالات معايير قياس الأمن الغذائي
الإشكال الأكبر أن التعريف الأممي والتعريفات المنتشرة على المستوى العالمي تميل إلى مصالح قوى النهب الربوية بقيادة اليهود وخاصة كل ما يتعلق باستمرار قبضتهم على السوق والعرض والطلب، بينما تهمل كل ما يتعلق بالعدالة وبشكل متعمد تتجاهل الإشارة إلى وسائل التدمير الأساسية التي تحول بين الشعوب وبين السيادة والاستقلال مثل الربا والاحتكارات.
ومن أبرز الإشكالات المتعلقة بمعايير قياس الأمن الغذائي فهي ما يلي:
1. الاعتماد على مؤشرات كمية ضيقة
تواجه معايير قياس الأمن الغذائي على المستوى الدولي عدة تحديات جوهرية، أبرزها اعتمادها على مؤشرات كمية ضيقة لا تعكس الواقع الكامل للأمن الغذائي. وعادةً ما يُقاس الأمن الغذائي بمؤشرات مثل متوسط السعرات الحرارية المتاحة للفرد يوميًا، أو نسبة الفقر الغذائي، وهذه المقاييس، تعطي صورة جزئية فقط عن الوضع الغذائي. وتكمن المشكلة في أن هذه المؤشرات لا تعكس الجوانب الأساسية للأمن الغذائي، مثل التنوع الغذائي، وجودة العناصر الغذائية الأساسية، وقدرة فئات المجتمع للوصول الفعلي إليها، واستقرار توفر الغذاء على المدى الطويل. وحق الشعوب في تحقيق الاكتفاء الذاتي.
2. الإهمال النسبي لاستدامة الإنتاج
المؤشرات تركز على الوضع الحالي، لكنها لا تعطي وزناً كافياً لمدى استدامة الموارد (المياه، التربة، المناخ) التي تضمن الأمن الغذائي.
3. إغفال البعد السياسي لما يترتب على حملات الغزو والاحتلال والنهب
المعايير تركز على الجوع والفقر لكنها لا تعالج كيف أن الحروب، الاحتلال، والعقوبات الاقتصادية هي عوامل مباشرة لانهيار الأمن الغذائي.
4. تحيز لصالح النموذج الليبرالي للتجارة
البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية تضغطان لتقليص الدعم المحلي للزراعة، بحجة “تحرير السوق”، وهذا يتناقض مع مبدأ السيادة الغذائية.
5. إشكالية الفجوة بين الأمن الغذائي والسيادة الغذائية
المعايير الأممية لا تُميز بوضوح بين الأمن الغذائي، (الحصول على غذاء من أي مصدر) والسيادة الغذائية؛ (حق الشعوب في إنتاج غذائها والاكتفاء المحلي).