الاقتصادي

رؤية الإسلام الاقتصادية ومسؤولية الدولة في بناء دولة كريمة

كتب محمد محمد أحمد الانسي باحث في الشؤون الاقتصادية

تميز رؤية الإسلام الاقتصادية عن غيرها

الإسلام كنظام فريد لإدارة حياة الإنسان بكافة مجالاتها وجوانبها التطبيقية، يتميز عن غيره بالواقعية والقيم والمبادئ الأخلاقية، ويمتلك خصائص ومقومات غير موجودة في غيره.

ولدى الإسلام كل ما يلزم من الضوابط والتشريعات المنظمة في الاقتصاد والمعاملات التجارية والعلاقة بين المنتج والسوق وعوامل الإنتاج والتوزيع، وما يتعلق بالمال والاستثمار والتنمية بشكل عام.

ووفقاً للرؤية الاقتصادية في الإسلام فثمة اهتمام وتركيز بكل ما يحقق الاستقرار الاقتصادي من خلال الاكتفاء الذاتي واعتماد سياسات نقدية خالية من الربا والظلم، ويعتمد الإسلام تداول المال الحقيقي الصادق (الذهب) كعملة قادرة على الثبات؛ لأنها تمتلك خصائص النقد المطلوبة كاملة.

ووفقاً للواقع ولتكرار التجارب مع الأنظمة البشرية الفاشلة التي عجزت عن تلبية حاجات الإنسان، ومنها الإقطاعية والاشتراكية والرأسمالية؛ فإن الإسلام هو الحل كنظامٍ راقٍ وإطار قادر على حل كل مشاكل البشرية.

 

المسؤولية الاقتصادية المنوطة بالدولة

المسؤولية الاقتصادية المنوطة بالدولة كبيرة ومهمة جداً، وحين أقول الدولة فالمقصود الدولة الإسلامية التي تقوم على أساس ولاية الأمر في الإسلام وفقاً للمبدأ القرآني المعروف: ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا﴾، وولاية الأمر مرتبطة بقرناء القرآن الأعلام، ومن يضعهم ويكلفهم القائد في مهام رئاسة تنفيذية لإدارة شؤون الناس.

والمسؤولية مرتبطة بالقيادة العليا للدولة وعلى عاتقها تفعيل وتطبيق رؤية الإسلام الاقتصادية، وأبرز هذه المهام ما يلي:

  1. إعداد الرؤية في شكل مناهج ودروس وأبحاث وتدريسها، وهذه مسؤولية الدولة والجهات المعنية فيها (التعليم العالي، والجامعــات، ومراكز الدراســــات، والمؤسســات الثقافية والإعلامية).
  2. إنزال الرؤية الاقتصادية الإسلامية إلى الواقع العملي، وعلى رأسها منع وتجريم التعامل بالربا.
  3. الرقابة على سير عمليات التداول وإدارة عمل السوق والتبادلات التجارية، ومنع حدوث أي تجاوزات تهدد استقرار الاقتصاد.
  4. الاهتمام بالثروات واستخراجها، ودعم ورعاية مشاريع الإنتاج في القطاع العام والخاص، وتنمية الموارد والحفاظ عليها، بما يعود بالنفع على المجتمع بكافة مكوناته وفئاته.
  5. توجيه رؤوس الأموال بناءً على خطط اقتصادية تحقق التوازن بين الاحتياجات الاستهلاكية، وتقوم على استيعاب واحتواء وتفعيل طاقات القوة البشرية؛ لأن المجتمع الذي تكثر فيه البطالة ينتشر فيه الفقر والجريمة ويختل فيه الاستقرار الداخلي.
  6. تسهيل إجراءات ومتطلبات الاستثمار، وتنفيذ كل ما من شأنه تحقيق النمو الاقتصادي.
  7. العمل على تحقيق الضبط والتنظيم في كافة ميادين العمل الاقتصادي، وفرض قيود تجاه التجاوزات المؤثرة سلباً على حياة المواطنين، ومنع التعاملات التجارية التي تتضمن إجراءات قائمة على الظلم بكافة أشكاله.
  8. وضع حد أدنى للأجور، وهذه من أهم المسؤوليات المنوطة بالدولة في الجانب الاقتصادي؛ لأنها مرتبطة بصون كرامة الإنسان وتحقيق عدالة اجتماعية. والإسلام في رؤيته الاقتصادية قدم للدولة (لولي الأمر) امتيازات وتشريعات عديدة تشكل عوناً وتسهيلاً للقيام بهذا الواجب الضروري، ويجب أن يحقق (الحد الأدنى للأجور) حماية للمواطن تكفل له أجرة لا تقل قيمتها عن قيمة الشيء الضروري الذي يحتاجه في معيشته ومن يعول (فيجب أن تكون أجرة العامل كافية لتغطية الحد الأدنى تكاليف وقيمة احتياجاته الضرورية وحاجة من يعولهم من مأكل ومشرب مع أجرة الانتقال -رسوم المواصلات والركوب- من منزل الأجير إلى مكان العمل)، وما كان أقل من هذه القيمة فهو لا ينسجم مع كرامة الإنسان ولا يحقق العدالة الاجتماعية.
  9. وضع حد أقصى لهامش الربح، وهو من المبادئ الأساسية في الإسلام لعلاقة الأمر بتحقيق العدالة الاجتماعية ولكونه من الإجراءات التي تحمي المواطن المستهلك من بعض الارتفاعات في الأرباح التي يصل بها بعض التجار الجشعين إلى 300% من أصل القيمة. والإجراء المناسب لضبط الأسعار يأتي من خلال وضع حد أعلى للربح، ويمكن تحقيقه من خلال (إنشاء وتفعيل وحدة تقييم التكاليف تعتمد معايير وآلية عادلة)، وهذه الوحدة إذا تم إنشاؤها وعملها بطريقة صحيحة فيمكن تحقيق نجاحات عديدة، إذ ينتج عنها تلقائياً الدفع بالمستوردين لتقديم الفواتير الحقيقية لأسعار وارداتهم حين يتبين لهم بأن الجهات الرسمية ستعتمد نسبة هامش ربح محدود وفقاً لإقرارهم الجمركي وبيانات القيمة في وثائقهم المقدمة للجمارك، وهذا بدوره سيمكن الدولة من إيرادات جمركية أكبر؛ ويعد إفشالاً لعمليات التلاعب بوثائق الأسعار التي يمارسها بعض التجار بغرض خفض رسومهم الجمركية والضريبية.

والسقف الأعلى المطلوب لهامش الربح يفترض ألا يزيد أبداً عن 30% من قيمة السلع والبضائع الكبيرة (الآليات والوسائل والمعدات) التي لا يحتاجها الناس بشكل دائم، ونسبة من 5% إلى 15% للمواد والسلع الأخرى الغذائية والدوائية بحسب سرعة دورتها.

ومن المهم التنبيه على أن وضع حد أعلى لهامش الربح موضوع مختلف عن (تدخل الدولة بتسعير السلع وإجبار التاجر على ما تراه) بالمعنى والمفهوم الذي قدمته بعض المراجع الاقتصادية، مؤكدة عدم تدخل الدولة في تحديد الأسعار على السلع وعدم إجبار التجار عليها؛ كون هذا الإجراء لا يدعم بيئة صالحة للاستثمار.

ووضع حد أعلى لهامش الربح هو إجراءٌ يساعد في معالج مشكلة فوضى الأسعار وتنظيمها دون حدوث ظلم على التاجر، وبما يحمي المجتمع من  الجشع ويربط الأسعار بالربح المعقول وفقاً للتكلفة والقيمة الحقيقية للسلعة.

  1. منع الاحتكار والغش والتجاوزات المخلة في بيئة العمل والإنتاج والتوزيع على مستوى مشاريع القطاعين العام والخاص.
  2. ضبط وإدارة عمليات الاستيراد والتصدير، ورسم السياسات المنظمة بما يمنع حدوث عجز في الميزان التجاري للدولة؛ لأن الأثر هنا يمس كل مواطن، ويمنع تحقيق نهوض الإنتاج المحلي، ويضعف القيمة الشرائية للعملة الوطنية.

12.توجيه رأس المال نحو الأولويات وتنظيم مجالات الاستثمار؛ نظراً لأن في توجيه رؤوس الأموال وتنظيمها حماية لها من الخسائر والركود الذي يحدث نتيجة للتزاحم في مجال معين، ويساعد على نجاح خطط الاكتفاء المحلي من السلع الأساسية الممكن إنتاجها، والسلع التي تتوفر موادها الخام محلياً، والاهتمام بالأولويات يخدم اقتصاد البلاد ويعود بالخير على الجميع.

 

  1. اعتماد السياسات الاقتصادية التي تسهم في خفض تكلفة الإنتاج لضمان تحقق الجدوى الاقتصادية من كافة المشاريع والأنشطة التجارية والاستثمارية بشكل عام.
  2. تفعيل الإيرادات في الخدمات الأساسية، وعلى رأسها تفعيل الزكاة وفقاً لمصارفها المذكورة في القرآن الكريم، وكذلك توزيع الفيء وفقاً لقول الله في كتابه الكريم: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ[1]، وفي الآية إشارةٌ واضحةٌ بالأساس الذي يقوم عليه مبدأ الضمان الاجتماعي، ومقصدٌ نبيلٌ في توزيعٍ يحقق العدالة الاجتماعية، ﴿كيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾. كما جاء في رسالة عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر:

“وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لأُولئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُع، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بَالإِعْذَارِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ”.

  1. تحقيق التوازن الاجتماعي من خلال العديد من الإجراءات والمهام ذات العلاقة به، منها توفير الضمان الاجتماعي لسد احتياج فئة الطبقة السفلى من المجتمع وفقاً لما ورد في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر في قوله: “ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإسلام فِي كُلِّ بَلَدٍ، فإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهَ لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ. فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ”.
  2. رعاية اليتامى وكفالتهم والاهتمام بهم بما يُمَكِّنَهُم من الاندماج والتحول إلى فئة منتجة (وَتَعَهَّد ْ أَهْلَ الْيُتْمِ) وهذا مما يحقق التوازن.
  3. تنفيذ الإصلاح التربوي للمساجين (المحكوم عليهم بعقوبات سجن) من خلال جعل السجون وحدات إنتاج تشمل (المشاريع الصغيرة/المشغولات اليدوية/الصناعات الحرفية وغيرها)؛ لأن هذه المسؤولية هي الطريقة الممكنة لإحداث التصحيح التربوي في نفوس المحكوم عليهم، ومن خلالها يتحول السجناء إلى فئة منتجة لصالحهم ولمصلحة من يعولون، وليخرجوا من السجون وقد حصلوا على تربية وإصلاح نفسي وباتوا لا يشكلون خطراً على أمن المجتمع واستقراره.
  4. تحقيق الأمن الاجتماعي من خلال الاهتمام والتركيز على كل ما يحقق تنمية وتقوية الطبقة الوسطى والحفاظ عليها من أي تراجع وانهيار يهوي بها نحو الفقر.

 

المسار التنموي في الإسلام مسار نافع مرتبط بالتمكين للمجتمع وتحويله من الاستهلاك والبطالة إلى الإنتاج وامتلاك القوة الشرائية

 

إنّ استراتيجية الإسلام في الاقتصاد تقوم على تمكين المجتمع -تحويل العامة من فقراء إلى منتجين قادرين على الانفاق على أنفسهم ومن يعولون، وتحقيق الاكتفاء الذاتي والاستقلال من التبعية الاقتصادية للغير .. والوصول إلى القوة الشاملة .

 وفي هذا الإطار فإن قادة الدول التي تلتزم بتحقيق العزة للشعوب لا يمكن تقبل ببقاء شعوبها حيث يريد أعداء الأمة في دائرة الاستهلاك والاستيراد لمنتجات الآخرين من (الملخاخ) إلى (الغذاء الأساسي والدواء) ومن هنا ندرك اهتمام قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي بموضوع خفض فاتورة الاستيراد وحرصه الكبير بشأن التحول إلى الاكتفاء الذاتي من الغذاء وما يطرحه من توعية وتحفيز بشأن هذه المواضيع.

 إنّ رؤية الإسلام الاقتصادية تقوم على التوازن والعدالة الاجتماعية والقيم والتمكين وتنطلق من أسس حقيقية من مخرجاتها تمكين المواطن من امتلاك قوة شرائية من انتاجه وهذه أهم الأعمدة والقواعد التي يمكن من خلالها بناء اقتصاد نافع للشعوب واستقرار في المجتمعات .

والله ولي التوفيق.

 

 

هوامش:

 [1] سورة الحشر: (من الآية 7).

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى