الاقتصادياليمنكتاباتمنوعات

المسؤولية الاقتصادية المنوطة بالدولة

محمد محمد أحمد الانسي -باحث في الشؤون الاقتصادية

 

المسؤولية الاقتصادية المنوطة بالدولة (ولي الأمر)

ثمة مفارقة عجيبة في إطلاق تسمية (الدول النامية) وتسمية (دول العالم الثالث)، فالدول التي تطلق عليها أمريكا دول العالم الثالث أو الدول النامية معظمها وعلى رأسها الدول العربية وبعض الدول الإسلامية؛ هذه الدول نفسها هي التي تزود أمريكا ــ وما يسمى بالدول الكبرى ــ بالعديد من الصادرات من المواد الخام، وهي التي تصدر لشركات الإنتاج العالمية مصادر الطاقة.

المشكلة هنا ليست في شعوب الدول العربية؛ بل في قادة هذه الدول وعبوديتهم وتوليهم لليهود، وعمالتهم لصالح قوى الاستكبار والهيمنة على حساب شعوبهم وأمتهم.

وبمجرد اختيار هذه الأنظمة وقبولها بالتبعية لقوى الرأسمالية فإنها قد قبلت بنهب ثروات شعوبها وارتضت بمعاناتهم.

ومعظم الأسباب التي تبعث على الجريمة هي أسباب متعلقة بضعف الاقتصاد في كل المجتمعات، وأهم أسباب هذا الضعف هو غياب الدور المنوط بالدولة وقيادتها.

  1. إعداد الرؤية في شكل مناهج ودروس وأبحاث وتدريسها، وهذه مسؤولية الدولة والجهات المعنية فيها (التعليم العالي، والجامعـــــــــــــات، ومراكز الدراســـــــــــات، والمؤسســــــات الثقافية والإعلامية).
  2. إنزال الرؤية الاقتصادية الإسلامية إلى الواقع العملي، وعلى رأسها منع وتجريم التعامل بالربا.
  3. الرقابة على سير عمليات التداول وإدارة عمل السوق والتبادلات التجارية، ومنع حدوث أي تجاوزات تهدد استقرار الاقتصاد.
  4. الاهتمام بالثروات واستخراجها، ودعم ورعاية مشاريع الإنتاج في القطاع العام والخاص، وتنمية الموارد والحفاظ عليها، بما يعود بالنفع على المجتمع بكافة مكوناته وفئاته.
  5. توجيه رؤوس الأموال بناءً على خطط اقتصادية تحقق التوازن بين الاحتياجات الاستهلاكية، وتقوم على استيعاب واحتواء وتفعيل طاقات القوة البشرية؛ لأن المجتمع الذي تكثر فيه البطالة ينتشر فيه الفقر والجريمة ويختل فيه الاستقرار الداخلي.
  6. تسهيل إجراءات ومتطلبات الاستثمار، وتنفيذ كل ما من شأنه تحقيق النمو الاقتصادي.
  7. العمل على تحقيق الضبط والنظام في كافة ميادين العمل الاقتصادي، وفرض قيود تجاه التجاوزات المؤثرة سلباً على حياة المواطنين، ومنع التعاملات التجارية التي تتضمن إجراءات قائمة على الظلم بكافة أشكاله.
  8. وضع حد أدنى للأجور، وهذه من أهم المسؤوليات المنوطة بالدولة في الجانب الاقتصادي؛ لأنها مرتبطة بصون كرامة الإنسان وتحقيق عدالة اجتماعية. والإسلام في رؤيته الاقتصادية قدم للدولة (لولي الأمر) امتيازات وتشريعات عديدة تشكل عوناً وتسهيلاً للقيام بهذا الواجب الضروري.
  9. وضع حد أقصى لهامش الربح؛ إذ يعتبر إصدار الأوامر العليا بشكل قانون أو غيره من الإجراءات التنظيمية المهمة لوضع حد أقصى لهامش الربح، ومن المبادئ الأساسية في الإسلام لعلاقة الأمر بتحقيق العدالة الاجتماعية ولكونه من الإجراءات التي تحمي المواطن المستهلك من بعض الارتفاعات في الأرباح التي يصل بها بعض التجار الجشعين إلى 300% من أصل قيمة التكلفة التي دفعها على السلع/المواد.

والإجراء المناسب لضبط الأسعار يأتي من خلال وضع حد أعلى للربح، ويمكن تحقيقه من خلال (إنشاء وتفعيل وحدة تقييم التكاليف)، وهذه الوحدة إذا تم إنشاؤها وعملها بطريقة صحيحة فيمكن تحقيق نجاحات عديدة، إذ ينتج عنها تلقائياً الدفع بالمستوردين لتقديم الفواتير الحقيقية لأسعار وارداتهم حين يتبين لهم بأن الجهات الرسمية ستعتمد نسبة هامش ربح محدود وفقاً لإقرارهم الجمركي وبيانات القيمة في وثائقهم المقدمة للجمارك، وهذا بدوره سيمكن الدولة من إيرادات جمركية أكبر؛ بعد إفشال عمليات التلاعب بوثائق الأسعار التي يمارسها بعض التجار بغرض خفض رسومهم الجمركية والضريبية.

والسقف الأعلى المطلوب لهامش الربح يفترض ألا يزيد أبداً عن 30 % من قيمة السلع والبضائع الكبيرة (الآليات والوسائل والمعدات) التي لا يحتاجها الناس بشكل دائم، ونسبة من 5% إلى 15% للمواد والسلع الأخرى الغذائية والدوائية بحسب سرعة دورتها.

  1. منع الاحتكار والغش والتجاوزات المخلة في بيئة العمل والإنتاج والتوزيع على مستوى مشاريع القطاعين العام والخاص.
  2. ضبط وإدارة عمليات الاستيراد والتصدير، ورسم السياسات المنظمة بما يمنع حدوث عجز في الميزان التجاري للدولة؛ لأن الأثر سوف يمس كل مواطن، ويمنع تحقيق نهوض الإنتاج المحلي، ويضعف القيمة الشرائية للعملة الوطنية إذا تم فتح باب الاستيراد دون قيود وضوابط ومنع قائمة المواد المتوفرة والمتاحة بشكل أكثر من كافي للاحتياج المحلي، وثمة قائمة مهمة لهذه المواد المتوفرة في الداخل.
  3. تحديد الأولويات في مشاريع الإنتاج وجعل الأولوية للسلع الأساسية الممكن إنتاجها ثم السلع التي تتوفر موادها الخام محلياً، بما يخدم اقتصاد البلاد ويعود بالخير على الإنتاج المحلي ويسهم في ارتفاع الصادرات وخفض فاتورة الاستيراد.
  4. تحقيق التوازن الاجتماعي من خلال مشاريع أساسية متخصصة في تحقيق هذا الهدف ومنها رعاية وتمويل وتبني كامل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة لعلاقتها بتوفير فرص عمل للمواطنين ولعلاقتها بنجاح مشاريع أخرى.
  5. تفعيل الإيرادات في الخدمات الأساسية، وعلى رأسها تفعيل الزكاة وفقاً لمصارفها المذكورة في القرآن الكريم، وكذلك توزيع الفيء وفقاً لقول الله في كتابه الكريم {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ}[1]، وفي الآية إشارةٌ واضحةٌ بالأساس الذي يقوم على مبدأ الضمان الاجتماعي ومقصدٌ نبيلٌ في توزيعٍ يحقق العدالة الاجتماعية، {كيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ}. كما جاء في رسالة عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر:

(وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لأُولئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُع، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بَالإِعْذَارِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ).

  1. تحقيق التوازن الاجتماعي من خلال العديد من الإجراءات والمهام ذات العلاقة به، منها توفير الضمان الاجتماعي لسد احتياج فئة الطبقة السفلى من المجتمع وفقاً لما ورد في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر في قوله: (ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإسلام فِي كُلِّ بَلَدٍ، فإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهَ لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ. فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ).

ومن تحقيق التوازن أيضاً رعاية اليتامى وكفالتهم والاهتمام بهم بما يُمَكِّنَهُم من الاندماج والتحول إلى فئة منتجة (وَتَعَهَّد ْ أَهْلَ الْيُتْمِ).

  1. تنفيذ الإصلاح التربوي للمساجين (المحكوم عليهم بعقوبات سجن) من خلال جعل السجون وحدات إنتاج تشمل (المشاريع الصغيرة/المشغولات اليدوية/الصناعات الحرفية وغيرها)؛ لأن هذه المسؤولية هي الطريقة الممكنة لإحداث التصحيح التربوي في نفوس المحكوم عليهم، ومن خلالها يتحول السجناء إلى فئة منتجة لصالحهم ولمصلحة من يعولون، وليخرجوا من السجون وقد حصلوا على تربية وإصلاح نفسي وباتوا لا يشكلون خطراً على أمن المجتمع واستقراره.

 

قدرة الدول والحكومات على القيام بواجباتها الاقتصادية

تستطيع الدولة (ولي الأمر) أن تقوم بواجباتها الاقتصادية، وخاصة في ظروف الحصار والمؤامرات من العدو؛ لأنها تشكل حافزاً معنوياً في المجتمع، وهو أهم عامل تحتاجه الدولة للقيام بمسؤولياتها نحو اقتصاد حقيقي وخفض فاتورة الاستيراد، وتفعيل مقومات العزة في الشعب للاتجاه نحو العمل والإنتاج.

ومن التشريعات الإسلامية الداعمة للدولة والمساعدة لها للقيام بدورها ومهامها الاقتصادية نجد أن الإسلام يلغي الاستثمار الرأسمالي الخاص في مجال الثروات المعدنية لمنع السيطرة والتسلط، ويفتح المجال لولي الأمر «للدولة» أمام ما في الأرض من مخزون المواد النافعة، وهذا الإجراء يعتبر نقطة انطلاق رئيسية للدولة في النشاط الاقتصادي، وهو وحده كفيل بتحقيق التوازن الاجتماعي.[3]

ولكن الربا وأذون الخزانة من أهم المخارج التي تستنزف الإيرادات، وتقضي على فرص تنمية الموارد.

  

مقومات وامتيازات قدمها الإسلام للدولة (ولي الأمر) لتحقيق التوازن الاجتماعي

كل التشريعات الإسلامية تصب فيما يحقق التوازن الاجتماعي، وعلى رأسها التشريعات التي في إطار الاقتصاد والاستثمار والتجارة، ومن أبرزها التالي:

تحريم الربا وتجريم التعاملات الربوية بكل أشكالها وأنواعها، ومنع اكتناز النقود، وكلها تشريعات تحقق التوازن وتمنع الدور السلبي للبنوك والمصارف الربوية التي ينتج عن نشاطها خلل في التوازن الاجتماعي؛ لأنها تشجع على الادخار والاكتناز من خلال الإغراء بالفائدة (أرباح أذون الخزانة).

منح الدولة صلاحيات كبيرة ودعمها بموارد ثابتة (الزكاة، الخمس) لتقوم بدورها في تحقيق التوازن.

إلغاء الاستثمار الرأسمالي للموارد؛ لأنه تطبيق عملي للاحتكار.

والاحتكار ممارسة ظالمة وقد تكفل الإسلام بمحو الظلم واقتلاعه؛ وبالتالي فإنَّ ما في الأرض من مخزون المواد النافعة يعتبر نقطة انطلاق رئيسية للدولة في النشاط الاقتصادي، وهو وحده كفيل بتحقيق التوازن الاجتماعي.

 

دروس قرآنية في التخطيط الاقتصادي والرشد الإداري (ذو القرنيين في بناء السد)

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ــ الُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ــ  قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ــ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ  حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ــ فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}[4].

أهم الدروس:

أن أولويات القائد لم تكن الحصول على تمويل فقد طلب المشاركة المجتمعية، {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}، {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ــ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}.

الرشد في التعامل وطريقة خطاب القائد الحكيم من قوله {أعينوني} فقد جعل السد وكأنه له وليس لهم، وفي هذا تحفيز للمجتمع واستنهاض لمشاركة الجميع.

 

التخطيط الاقتصادي والاستراتيجي في آية {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}

قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ}[5]. لقد بدأت الآية الكريمة بـ كلمة {وأعدوا}، وهي ذات مدلول واضح مرتبط بالتخطيط؛ لأن الإعداد (عمل وتجهيز مطلوب لشيء قادم).

ومضمون آية الإعداد يحمل دروساً قرآنية ــــ ذات أهمية كبرى ــــ مرتبطة بالأمة كلها، وبالمجتمعات الإسلامية وصمودها وتصديها ونصرها على عدوها.

ودرس الإعداد في هذه الآية يتناول واحداً من أهم ملفات التخطيط الاستراتيجي للأمة الإسلامية؛ لأن مضمونها مرتبط بالقوة التي تحتاجها في المواجهة والتصدي لعدوها بما يحقق لها المنعة والحصانة والعزة والنصر.

والقوة العسكرية تبدأ من أصغر طلقة إلى أسلحة الردع الكبرى، ومع ذلك فهي وحدها لا تكفي، فلا بد من امتلاك القوة الاقتصادية؛ لأن القوة العسكرية تحتاج إلى اقتصاد قوي متماسك لتغطية احتياجاتها من الأسلحة والعتاد والمؤن والمستلزمات الأساسية الأخرى.

وتشكل القوة الاقتصادية أهمية كبيرة للدولة لتغطية التزاماتها الأساسية تجاه الشعب الذي يشكل بمواطنيه الحاضنة الاجتماعية للدولة ولقوتها العسكرية والأمنية.

ومن هنا تبرز أهمية الجانب الاقتصادي في مواجهة العدو، فلا بد من الاهتمام بالقضايا والشؤون المرتبطة بتحقيق النهوض الاقتصادي باعتباره من أهم ميادين العمل الجهادي في مواجهة العدو. [6]

 

التخطيط الاقتصادي والرشد الإداري عند نبي الله يوسف عليه السلام

{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ــ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ــ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}[7].

من الدروس القرآنية العظيمة في مجال التخطيط والعمل الاقتصادي ما جاء في الآيات الكريمات التي ذكرت موضوع نبي الله يوسف بن يعقوب عليهما السلام وخطته الاقتصادية العملية المعروفة، وكانت مدتها الزمنية خمسة عشر عاماً.

لقد كانت خطة نبي الله يوسف (عليه السلام) سبباً لإنقاذ الناس من مجاعة قادمة، وقد هُدِيَ إليها بتوفيق من الله لأنه كان يحمل روحية المحسن المهتم بالآخرين، وتميزت خطة يوسف عليه السلام بأنها تقوم على أربعة محاور هي:

الإنتاج والاستهلاك والادخار وإعادة استثمار المدخرات، «مع حزمة إجراءات للموازنة بين المحاور الأربعة».

أهم مقومات نجاح خطة يوسف عليه السلام:

أخرجت الجميع للمشاركة في عمل زراعي دؤوب غير منقطع ولا متوقف {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا}.

ركزت خطة الإنقاذ على تخزين كمية من الإنتاج بطريقة سليمة آمنة من التلف، حيث أمر بحفظ الحبوب في سنابلها {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ}.

تضمنت الخطة إجراءات منع الإسراف، وتحديد الاستهلاك بقدر الاحتياج الضروري {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ}.

اهتم يوسف عليه السلام في الخطة بتحقيق فائض لإعادة الإنتاج {سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ}.

كفاءة العنصر البشري التي توفرت في الفريق المنفذ، ابتداء من يوسف عليه السلام إلى الفريق الذي اختاره معه بعد أن حصل على التمكين بتعيين الملك له، وأهم صفات الفريق كانت الإيمان الواعي والعملي والأمانة والإحسان.

{فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ــ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ــ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ــ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.[8]

 

الموجهات الاقتصادية في رسالة عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر

لقد ورد في رسالة عهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لمالك الأشتر حين ولاه على مصر ما يلي:

(وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنَّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأنَّ الناس كلهم عيال على الخراج وأهله).

كما أكد على تنمية الموارد والمحافظة عليها، وبذل الجهود لتصحيح وضع الاستثمار والتجارة باعتبارها شرايين رئيسية في اقتصاد الأمة، ويتضح هذا في قوله عليه السلام في رسالة العهد:

(وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً).

 

وصية الإمام علي لمالك الأشتر بشأن المزارعين حفاظاً على تنمية الإنتاج

من مهام الدولة تجاه التنمية الاقتصادية ودعم الإنتاج رعاية المزارعين والعناية بهم، وتصديقهم فيما يقولون في شأن الخراج، ومعالجة كل أنواع الضغط عنهم في قوله عليه السلام:

(فإن شكوا ثقلة، أو علة، أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرف، أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمد أفضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إحجامك لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد ما  احتملوه طيبة أنفسهم فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من أعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع – أي جمع الأموال وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر).

 

قطاع التجارة والمستثمرون في مشاريع الإنتاج

من المهام الاقتصادية المنوطة بالدولة في الإسلام تقديم العون للتجار والمستثمرين، ودعم مشاريع الصناعة والإنتاج، ومما ورد في رسالة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لمالك الاشتر أيضاً:

(ثم استوصي بالتجار وذوي الصناعات، وأوصي بهم خيراً، المقيم منهم، والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فاغنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم شكم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك).

منع الاحتكار

منع الاحتكار التجاري لما له من أثر سيء في استغلال حاجة الناس، ولما فيه ضرر يمس الناس في قوتهم، ويضاعف معاناة طبقة الضعفاء على وجه الخصوص:

قال الإمام علي (ع) لمالك الأشتر:

(مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً كبيراً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات، وذلك باب مفرة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منع عنه، وليكن البيع بيعاً سمحاً لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع – المشتري – فمن فارق حكرة بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقبه في غير إسراف)

 

الربا سلاح فتاك بيد طواغيت الرأسمالية للسيطرة على الشعوب والبلدان

ينتشر الربا في الدول والبلدان التي تخضع لقوى الرأسمالية الربوية إذ تدفع بها الأدوات المالية والتجارية الدولية إلى الغرق في أوحال الربا والمراباة، ومن أبرز هذه الأدوات البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية.

وتبقى الدول الخاضعة للرأسمالية الربوية في صراع مستمر مع المشاكل الاقتصادية، وفي معاناة تحت وطأة الديون المحلية والخارجية، ومهما بذلت من جهود ومساع للقيام فإنها لا تقوم ولن تقوم، مصداقاً لقول رب العالمين سبحانه وتعالى: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[9].

لقد كان الربا في الماضي والحاضر ــ وسيقبى في المستقبل ــ من أهم أسباب استنزاف ثروات البلدان، وهو الوسيلة الأولى بيد الطواغيت لإضعاف الشعوب والسيطرة على خيراتها ومقدراتها.

وبسببه تتجرع المجتمعات الفشل والإخفاق في القيام بما يجب عليها أن تقوم به من تحرك نحو ما فيه عزتها وحفظ كرامتها من بناءٍ وتحصينٍ تنموي في كافة مجالات الحياة.

 

التنمية الاقتصادية كسلاح منيع للدولة والشعوب

إن الإسلام كنظام فريد لإدارة حياة الإنسان بكافة مجالاتها وجوانبها التطبيقية، يتميز عن غيره بالواقعية والقيم والمبادئ الأخلاقية، ويمتلك خصائص ومقومات غير موجودة في غيره.

ولدى الإسلام كل ما يلزم من الضوابط والتشريعات المنظمة في الاقتصاد والمعاملات التجارية والعلاقة بين المنتج والسوق وعوامل الإنتاج والتوزيع، وما يتعلق بالمال والاستثمار والتنمية بشكل عام.

ووفقاً للرؤية الاقتصادية في الإسلام فثمة اهتمام وتركيز بكل ما يحقق الاستقرار الاقتصادي من خلال الاكتفاء الذاتي واعتماد سياسات نقدية خالية من الربا والظلم، ويعتمد الإسلام تداول المال الحقيقي الصادق (الذهب) كعملة قادرة على الثبات تمتلك خصائص النقد المطلوبة كاملة.

ووفقاً للواقع ولتكرار التجارب مع الأنظمة البشرية الفاشلة التي عجزت عن تلبية حاجات الإنسان، ومنها الإقطاعية والاشتراكية والرأسمالية؛ فإن الإسلام هو الحل كنظامٍ راقٍ وإطار قادر على حل كل مشاكل البشرية.

[1]   الدولة التي تقوم على أساس ولاية الأمر في الإسلام وفقاً للمبدأ القرآني المعروف: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا..}، وهم قرناء القرآن الأعلام، ومن يضعهم ويكلفهم القائد العلم في مهام رئاسة تنفيذية لإدارة شؤون الناس في المناطق والبلدان تحت قيادته ومسؤوليته.

 

 

 

 

(من كتاب المشكلة الاقتصادية -الأسباب والحلول) للباحث محمد محمد الآنسي. اليمن صنعاء

الهوامش والمراجع:

[2]   سورة الحشر: (من الآية 7).

[3]   كتاب «اقتصادنا» للمفكر الإسلامي الكبير الشهيد (محمد باقر الصدر) رضوان الله عليه.

[4]   سورة الكهف: (الآيات 93 ــ 97).

[5]   سورة الأنفال: (من الآية 60).

[6]   دروس من هدي القرآن الكريم للشهيد القائد (رضوان الله عليه)، ومحاضرات السيد القائد، منها الدرس العاشر والحادي عشر من دروس عهد الإمام علي لمالك الأشتر.

[7]   يوسف: (الآيات 47 ــ 49).

[8]   يوسف: (الآيات 54 ـــ 57).

[9]   سورة البقرة: (من الآية 275).

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى