الاقتصادي

موقف الإسلام من امتلاك الثروة -الشروط والمعايير والقيم


كتب محمد محمد احمد الانسي
خبير اقتصادي

موقف الإسلام من امتلاك الثروة
الإسلام والتشريعات الإلهية في الواقع لا يمنع الإنسان من امتلاك الثروة؛ ولكنه يضع مسؤوليات كبيرة أمام من يمتلك المال والثروة والأصول المادية. وحين تكون أكثر من الاحتياج بأضعاف كثيرة، تتضاعف المسؤولية والالتزامات. فوضع الثروة والمال في يد شخص واحد أو أسرة واحدة بحجم يزيد مئات وآلاف المرات عن حجم حاجتهم، يتطلب وضع علامات تعجب، ويشير إلى وجود خلل ترك خلفه بشراً جياعاً، وفقاً لمبدأ اقتصادي ثابت في الإسلام وفي الواقع وهو: (ما جاع فقير إلا بتخمة غني).
والأمر هنا مرتبط بمشكلة الاحتكار وغياب مبادئ عدالة التوزيع التي تقوم على ظلم الآخرين، ويكرسها الاكتناز والمراكمة لصالح فئة الأغنياء المترفين (الفئة غير المنتجة). فحين يتكدس المال في أيدي القلة، ويُحرم منه جياع بأعداد كثيرة، يحدث اختلال في التوزيع. ودائما خلف تكدّس المال جوعى وظلم، (والله ما جاع فقير إلا بتخمة غني).

دلالات الآية القرآنية الكريمة
﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾
المقصود بـ “أموالكم”: الثروات والممتلكات الخاصة والعامة.
و”جعل الله لكم قياماً”: أي أن الله جعل المال وسيلة تقوم بها حياة الناس، وتُقام به شؤونهم، ومنها:
1. إقامة الدولة العزيزة العادلة.
2. بناء مجتمع منتج كريم.
3. ضمان العدل الاقتصادي والكرامة الإنسانية.
ومن دلالات الآية: أنها تؤكد أن المال والوصول إلى الثروة ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لإقامة العدل، وحفظ الكرامة، وتأمين احتياجات الناس.
• كما أنها تنهى عن تمكين السفهاء من المال، وهم العناصر التي لا تحسن التصرف فيه باعتبارها تفتقر إلى الرشد والحكمة.
• والمال من الإمكانات التي سخرها الله لعباده لإقامة الدولة الكريمة والقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض في إطار رؤية القرآن ومشروعه ومنهاجه.
• والعائد المالي محدود ومشروط بالعمل والإنتاج وفي إطار بيع وتداول سلعة فيها قيمة ونفع للناس، ولا بد أن يكون هامش الربح بالقدر المعقول.
وليس كما يحدث اليوم في وضعية (إيلون ماسك) أن يكسب ثلاثمائة مليار في فترة زمنية قصيرة، ما دفع بأحد الاقتصاديين إلى القول إن الوضع الطبيعي لامتلاك ثروة بشكل طبيعي تعادل ثروة ماسك كان يتطلب أربعة آلاف سنة. أو أنه قد استحوذ بالاحتكار على كمية من الثروة كان بالإمكان أن تغطي احتياجاً معيشياً لأربعمائة مليون رب أسرة مع من يعولهم طوال حياتهم. وأكثر من ذلك.
إن المال والثروة ليسا ملكية مطلقة لأحد، وإنما أمانة في يد الإنسان مرتبطة بمهام ومسؤوليات كبيرة. فحين يتكدس المال في أيدي القلة، ويُحرم منه جياع بأعداد كثيرة، يحدث اختلال في التوزيع.
وفي هذا الإطار نجد أن الله رب العالمين سبحانه وتعالى حذّر من الاكتناز حتى لا يحدث تعطيل للإنتاج والتنمية الاقتصادية فقال: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة: 34).
ولأن الإسلام دين عدل وتوازن وبناء، فهو لا يقرّ بأن يكون المال دُولة بين فئة الأغنياء وحدهم دون بقية المجتمع: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ (الحشر: 7).
ومن هنا ندرك أهمية الموقف القرآني تجاه الاكتناز باعتباره مشكلة كبرى، فهو يدعو إلى الإنفاق والتدوير، قال تعالى:
• ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران: 92).
• ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (الذاريات: 19).
فمن مظاهر العدل أن يوقن الغني أن في ماله حقًّا مفروضًا للفقراء والمحرومين، لا منّة فيه ولا فضل. ومن ثمّ، كانت الزكاة ركناً أساسياً، والوعد لمن ينفق مقترناً بالبركة والنمو في المجتمع: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ (التوبة: 60).
﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ (سبأ: 39).
كما ينهى القرآن الكريم عن أكل أموال الناس بالباطل، باسم التجارة أو المصلحة، ما لم تكن بتراضٍ وعدالة: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ (النساء: 29).
ويتوعد من يغش في الوزن ويحتال في البيع فيقول: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ (المطففين: 1–3).

الخلاصة
بناء على ما سبق، يمكن القول: إن الإسلام لا يمنع امتلاك الثروة، لكنه يضع قيودًا أخلاقية وتشريعات تنظيمية واقتصادية تضمن بقاء الأغنياء في دائرة الإنتاج والكفاية، والتوازن بين الاستهلاك والإنتاج معاً.
فتراكم الثروة لصالح فئة محددة يشير إلى خلل في التوزيع، ويؤكد وجود انحراف عن التشريعات والرؤية القرآنية. وهذا يعني أن تجاوز تشريعات الله الخالق، وعدم العمل بها، يؤدي إلى فقر وظلم وفوارق كبيرة في توزيع الثروة ذات أثر اجتماعي كارثي.
من أهم المسؤوليات والالتزامات التي يضعها الإسلام بشأن امتلاك الثروة ما يلي:
1. أن تكون مكتسبة من حلال، وتُصرف في حلال.
2. أن لا تستخدم في أي نشاط يقوم على الظلم والاحتكار.
3. أن يتم توجيهها نحو ما فيه نفع للمجتمع، وبناء للدولة الكريمة وما يحقق للأمة الوصول إلى القوة والعزة والمنعة.
4. أن لا تُكنز بعيداً عن الإنتاج والبناء النافع.
5. أن لا تُستخدم في إفقار الآخرين أو إذلالهم أو إفسادهم أو الإضرار بهم بأي شكل.
6. أن تتم مواكبتها بأداء الزكاة والإنفاق الخيري والحقوق والواجبات.
وكل التشريعات المشار إليها هي في صالح الإنسان وتضمن الاستقرار للبشرية. ولو التزم المخلوقون بها لكان الوضع المعيشي اليوم أفضل بكثير مما هو عليه. والواقع يشهد بأن الله رب العالمين كريم منعم وصاحب فضل وإحسان واسع على المخلوقين؛ إذ سخر لهم ما لا يحصى من النعم، وأتاح لهم من الموارد والثروات والغذاء أكثر مما يحتاجون إليه. وتنزيهاً له أن يقبل أو يريد للبشرية أن تعاني من التجويع أو تتعرض للمهانة والشقاء والحرمان من أساسيات المعيشة ومتطلبات الحياة.
والتشريعات الإلهية المتعلقة بالمال والاقتصاد واسعة ومتميزة لا نظير لها في حماية القيمة وحماية حقوق الآخرين. ولو عمل بها الناس لكانت شاهداً على كفاءة الدين والإسلام كنظام كامل شمل مجالات حياة الإنسان بكل أنواعها. ولكن المشكلة تكمن في البشرية نفسها، في اختيارها وقبولها ببدائل أخرى من رؤى البشر، اتخذها الناس بدلاً عن تشريعات الله الخالق العظيم، كما يحدث في الوضع الراهن في كل بلدان العالم. ومن الطبيعي أن يحدث الظلم وينتشر الفقر ومعاناة الناس، وسوف يستمر هذا الوضع ما استمرت الأنظمة بعيدة عن توجيهات الله، وما دامت مرتبطة بقوانين ورؤى بشرية مليئة بالأخطاء والقصور والاحتيال، وقد ثبت فشلها وتعثرها وظلمها لمرات عديدة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى